ربما لكل واحد منا
معاملة ضائعة في جامعاتنا. كنت أعتقد أن أختي وقريبتي
وصديقي هم فقط من اختفت معاملاتهم وخطاباتهم في أروقة
الجامعات. لكن يبدو أنها معاناة كل منزل. بسمة السناري،
المعيدة في جامعة الملك عبدالعزيز، أثبتت ذلك عبر
تقريرعرضته قناة (روتانا خليجية) في 3 ديسمبر 2011.
تحدثت بسمة في التقرير عن معاملة ضائعة وإهمال تسبب في
انهيارها عصبياً وإصابتها بالرعاش. البسمة التي انطفأت،
حاصلة على الماجستير بامتياز، لكن هذا لم يشفع لها
لمواصلة دراستها. بعثت خطابات إلى إدارة الجامعة تشرح
رغبتها في استكمال دراستها داخل وطنها؛ كونها غير
متزوجة، وتعول أمها الضريرة، ووالدها المسن، ولا
تستطيع الابتعاث خارجا. لكن خطاباتها لم تصل. صرحت في
الصحف بمعاناتها، بيد أنها لم تثر نقعاً ولا صليلاً.
انهارت أعصابها وأحلامها. نبتت لها رجل ثالثة من
الأحزان. عصا تساعد أغصانها المرتعشة على الانتقال من
غرفة إلى أخرى في منزلها الصغير بعد أن كانت قبل أيام
قليلة تطارد طموحاتها بساقين تتحدى الريح.
إن ما حدث لبسمة حدث لمئات غيرها. صادقت جامعاتنا على
مصرع العديد من الأحلام. أصبحت مقبرة للكثير من
الأمنيات. طلاب وطالبات متفوقون حرموا من متابعة
دراستهم والحصول على أبسط حقوقهم بسبب أخطاء إدارية
ومحسوبيات. قريبتي مثلا، طلب منها أستاذها الذي كان
يرأس القسم الذي تدرس فيه، أن تتقدم بملفها كمعيدة،
منذ أن كانت طالبة في سنتها الثالثة بالجامعة. قال لها:
"أنتِ زميلتنا المقبلة. القسم بحاجة إليكِ". فور أن
تخرجت بامتياز مع مرتبة الشرف تقدمت بملفها، لكن لم
يجب عليها أحد. بعد عدة أسابيع اتصل عليها رئيس القسم
وسألها عن سبب عدم تقديمها ملفها حتى الآن. أجابت
بأنها فعلت، بحث عنه ولم يجده. طلب منها أن تقدمه مرة
أخرى، ففعلت ذلك. اتصل عليها مجددا وأودع في أذنها نفس
السؤال" أين الملف؟". لم يقلع أستاذها عن الأسئلة، ولم
تتوقف هي عن تقديم الملف حتى حصل عليه بنفسه من والدها.
صارت قريبتي مُحاضِرة اليوم في الجامعة. لكن بقي
السؤال المزمن: من أخفى ملفاتها؟ أيوجد (مثلث برمودا)
في جامعاتنا؟ أين تذهب معاملاتنا وأحلامنا إذاً؟ مِن
مصلحة مَن أن تهدر هذه الملفات والمعاملات والأحلام؟
ثمة مواهب عظيمة يئست واستسلمت، خسرت وخسرناها. لم تجد
من يؤمن بموهبتها ويحارب في سبيلها، رغم أني لا أجد
مبررا لحروب في سبيل وظائف في الجامعة. ففي الجامعة
بالذات يجب أن يحصل على الوظيفة من يستحقها دون معارك.
المحاضر الخطأ سيتخرج على يديه الطالب الخطأ.
صديق عرفته في بريطانيا، حدثني عن معاناته قبل الإعادة.
أخبرني أنه تقدم للإعادة في الجامعة، لكنه لم يُقبل،
رغم أن تقديره ممتاز، وفوجئ لاحقا بأن زميله قُبل في
نفس التخصص رغم أن معدله أقل منه. زار مكتب مدير
الجامعة شاكيا لكنه عاد بخفي حنين. عندما أخبر قريبه
عن معاناته وحلمه رد عليه ببساطة قائلا: "شغّل واسطتك
إذا كنت ترغب في هذه الوظيفة"، أي ابحث عن واسطة. (شغّل)
صاحبنا واسطته، واليوم هو مبتعث من الجامعة، التي كان
يبتغيها؛ لدراسة الدكتوراه في المملكة المتحدة. لكن هل
(الواسطة) تبني مجتمعا معرفيا أم تقضي عليه؟
من المؤسف أن تجد بعض مسؤولي جامعاتنا لديهم ثلاثة
أبناء أو ربما أربعة أو خمسة يعملون محاضرين في نفس
الجامعة. إننا نعلم أن بعض الزملاء سيصبح معيدا منذ
فصله الأول في الجامعة، ليس لكونه مميزا، بل لأنه قريب
لمسؤول في الجامعة. نعلم أيضا أن هذا الطالب هو من
سيقدم حفل التخرج من اليوم الأول له في الجامعة ليس
لأنه مفوه، وإنما لأنه ابن فلان. جامعاتنا بحاجة إلى
الكثير من العمل والمتابعة والرقابة والتجديد في
المواقع والمناصب لتحقق المنشود.
إن الحديث عن التصنيف والأبحاث في جامعاتنا ترف في
الوقت الراهن. كيف تتحدث عن أثاث المنزل، وأنت لديك
مشكلة في التمديدات والإنشاءات التي تتطلب تدخلا عاجلا.
إن المجتمع الذي تزدهر فيه عبارة "شغل واسطتك" بحاجة
إلى الكثير من العمل حتى تعود إليه البسمة!
عبدالله المغلوث 2011-12-24
1:26 AM
جريدة الوطن
http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=8769